‏إظهار الرسائل ذات التسميات القصص. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات القصص. إظهار كافة الرسائل
الأربعاء، 24 ديسمبر 2014

البيضة

كان أبي، كما أتصوره الآن بكل يقين، رجلا ذا طبيعة ميالة إلى البشر والطيبة. حتى سن الرابعة والثلاثين، كان يعمل مُزارعا لدى رجل يدعى ثوماس برووث تقع مزرعته قرب مدينة بيدويل، أوهايو. كان وقتئذ يملك حصانا، وكان يذهب مساء كل سبت لتزجية بعض الوقت في صحبة مزارعين آخرين. في المدينة كان يحتسي بضع كؤوس من الجعة ويقف في حانة بينهاد محاطا بعدد من المزارعين الذين اعتادوا زيارة المكان مساء كل سبت أيضا. كانت الأغاني تنشد والكؤوس تنقر بأصابع الإبهام. في الساعة العاشرة كان أبي يعود به إلى المنزل عبر طريق زراعي مقفر، ثم يطمئن على الحصان ويوليه الرعاية الليلية المعتادة ويذهب هو نفسه إلى النوم سعيدا كل السعادة بنصيبه في الحياة. حتى ذلك الوقت لم تكن لديه أية فكرة عن إمكانية التطلع إلى مركز رفيع في الحياة.
كان أبي في ربيع السنة الخامسة والثلاثين من عمره عندما تزوج من والدتي التي كانت تعمل مدرّسة في الأرياف. وفي الربيع الموالي قدمت أنا إلى الوجود أتململ وأبكي. شئ ما حدث للزوجين بعد ذلك؛ لقد أصبحا طموحين. كان الشعور الأمريكي المتحفز إلى الارتقاء في الحياة قد امتلكهما امتلاكا. قد تكون أمي هي المسؤولة عن هذا. فهي بحكم عملها كمدرسة كانت بلا شك تقرأ الكتب والمجلات؛ أفترض أن تكون قد قرأت كيف ارتفع كارفيلد لينكولن وأمريكيون آخرون من حضيض الفقر إلى قمة الشهرة والعظمة، وأنها في الأيام التي التزمت فيها السرير، وقد كنت ممددا إلى جانبها، ربما تكون قد حلمت باليوم الذي أكبر فيه وأصبح حاكما على الناس والمدن. استطاعت بطريقة أو بأخرى أن تقنع أبي بالعدول عن عمله كمزارع وبيع حصانه وبدء مشروع خاص به. كانت سيدة طويلة القامة تميل إلى الصمت ذات أنف طويل وعينين شهلاوين مضطربتين. لم تكن تريد شيئا لنفسها، لكنها كانت تطمح بشكل لا علاج له إلى مستقبل أفضل لأبي ولي أنا.
كان مصير المغامرة الأولى التي خاضها الزوجان سيئا؛ فقد اكتريا بقعة أرضية سيئة ومتحجرة من عشرة فدادين على طريق كريكز تبعد ثمانية أميال عن بيدويل، وشرعا في تربية الدجاج. كبرت أنا إلى أن بلغت مبلغ الفتيان وتكونت لدي انطباعات الحياة الأولى في ذلك المكان. كانت انطباعات كارثية في البداية، ولو كنت، من جهتي، رجلا كئيبا ميالا للنظر إلى الجانب المظلم من جوانب الحياة لعزوتُ ذلك إلى حقيقة أن أيام الطفولة التي كان يجب أن تكون أيام سعادة وحبور، قد قضيتها في مزرعة للدواجن.
أي شخص يفتقر إلى التجربة في مثل تلك المسائل لا يستطيع أن يكون فكرة عن الأمور المأساوية الكثيرة التي يمكن أن تحدث لدجاجة. إنها تخرج من بيضة وتعيش أسابيع قليلة مخلوقا صغيرا مغطى بريش ناعم كالذي تراه على بطاقات إيستر. ثم تتعرى بشكل مرعب وتأكل كميات من الذرة والوجبات التي وفرها الآباء من عرق جبينهم، وتصاب بأمراض مثل الكوليرا وغيرها وتقف وهي تنظر ببلاهة إلى الشمس وأخيرا تمرض فتموت. دجاجات معدودات وديك من حين لآخر يراد منها أن تخدم الغايات الإلهية الغامضة وتكافح للوصول إلى النضج. وتضع الدجاجات بيضا تخرج منه فراخ أخرى وهكذا دواليك. هكذا تكتمل الدائرة المخيفة. إنها دائرة معقدة بشكل لا يصدق. لا بد أن معظم الفلاسفة قد نشأوا في مزارع للدواجن. يأمل المرء الكثير من دجاجة، ولكنه واهم لدرجة مؤسفة. فالفراخ الصغيرة التي استهلت رحلة الحياة، وتبدو مشرقة ونشيطة بينما هي في الواقع في منتهى البلادة، تشبه على نحو كبير أناسا يختلط بهم المرء فيربكون أحكامه عن الحياة. إذا لم يقتلها المرض فإنها تنتظر إلى أن تُستثار توقعاتك بعناية ثم تمضي تحت عجلة عربة فتسحق تحتها وترجع ميتة إلى خالقها. تنتشر الحشرات المؤذية في جلدها وتنفق الأموال في شراء المساحيق لعلاجها. في المراحل المتأخرة من حياتي رأيت كيف أن إبداعات أدبية قد أنجزت حول موضوع الثروات التي تكتسب من تربية الدواجن. إنها كتبت ليقرأها أولئك الذين أكلوا حديثا من شجرة المعرفة؛ معرفة الخير والشر. إنه أدب يدعو إلى الأمل ويعلن أن الكثير يمكن أن يفعله أناس بسطاء طموحون يملكون دجاجات معدودة. لا يغرنك ذلك. إنه لم يكتب من أجلك. اذهب للتنقيب عن الذهب في مرتفعات ألاسكا الباردة. ضع ثقتك في نزاهة رجل سياسي. آمِن إن شئت بأن العالم ينمو بشكل أفضل وأن الخير سينتصر على الشر. ولكن لا تقرأ ولا تصدق الأدب المكتوب عن الدجاج؛ إنه لم يكتب من أجلك.
واضح أنني خرجت عن الموضوع؛ فقصتي ليست عن الدجاجة أساسا. إذا كان ينبغي أن تحكى بشكل صحيح فإنها ستنحصر حول البيضة لا الدجاجة. لمدة عشر سنين كافح أبي وأمي ليجعلا مزرعة الدواجن مشروعا مربحا، ثم تخليا عن ذلك الكفاح ليبدءا كفاحا آخر. انتقلا إلى مدينة بيدويل أوهايو وفتحا مطعما هناك. بعد عشر سنوات من القلق حول آلة تفريخ الدجاج التي لم تكن تعمل جيدا و"كرات" الريش الناعم الصغيرة التي كانت تبدو جميلة بطريقتها الخاصة والتي مرت من مرحلة الفراخ شبه العارية إلى مرحلة الدجاج النافق، رمينا كل شئ جانبا وحزمنا حوائجنا في عربة قدناها على طريق كريكز في اتجاه بيدويل. ذهبنا في قافلة صغيرة يداعبها الأمل وتبحث عن مكان جديد تبدأ فيه رحلة الصعود في الحياة. لا بد أننا كنا مجموعة أشخاص يظهر عليهم الحزن ولم يكونوا، في اعتقادي، أحسن حالا من لاجئين فارين من ساحة المعركة. سرنا، أنا وأمي، على الطريق والعربة التي عليها أمتعتنا اكتريناها ليوم واحد من جار لنا يدعى السيد ألبرت كريكز. كانت أرجل الكراسي الرخيصة تتدلى من جوانب العربة، وفوق أكوام الأسِرّة والموائد والصناديق الممتلئة بأدوات المطبخ يظهر صندوق كبير فيه دجاجات حية وفوقه عربة أطفال صغيرة كنت أمتطيها في صباي الأول. لم أكن أعرف لماذا احتفظنا بعربة الأطفال تلك! فلم يكن من المحتمل أن يولد لنا أطفال آخرون، كما أن عجلاتها كانت محطمة. المسألة أن الذين يملكون أمتعة قليلة يتمسكون بها. وهذه هي إحدى الحقائق التي تشجع على الحياة. ركب أبي العربة. كان بدينا بعض الشئ وكان يميل إلى الصمت والتحفظ بحكم العادة التي اكتسبها من معاشرته لأمي وللدجاج. لقد عمل خلال العشر سنوات التي قضيناها في مزرعة الدواجن كما عمل مُزارعا مساعدا في المزارع المجاورة. وأنفق المال الذي كسبه من عمله ذلك في علاج أمراض الدجاج وشراء أدوية مثل عقار الكوليرا الأبيض العجيب لويلمر وعقار البروفيسور بيدلو المساعد على تفريخ البيض وغيرها من العقاقير التي كانت أمي تجد إعلاناتها في الجرائد المتخصصة في الدواجن. كانت هناك ذؤابتان صغيرتان من الشعر على رأس أبي تتدليان فوق أذنيه. أذكر أنني عندما كنت طفلا صغيرا، كنت أجلس محملقا فيه وهو نائم على مقعد قرب المدفأة مساء كل أحد خلال فصول الشتاء. كنت وقتها قد تعلمت قراءة الكتب وتكوين بعض الأفكار الخاصة بي. كان الطريق "الأصلع" الذي يبدو على رأسه شبيها، كما تخيلته، بطريق عريض كالذي سلكه القيصر بفيالقه وهو يغادر روما إلى عجائب عالم مجهول. ذؤابتا الشعر فوق أذني أبي كانتا أشبه بالأدغال في تصوري. انتابتني حالة بين اليقظة والنوم وحلمت كأنني شئ صغير يمضي في الطريق إلى مكان بعيد جميل ليس فيه مزارع للدواجن والحياة فيه سعيدة لا تشغلها قضايا البيض. يمكن لأي أحد أن يؤلف كتابا عن رحلتنا من مزرعة الدواجن إلى المدينة. قطعنا، أمي وأنا، ثمانية أميال كاملة على أقدامنا لأنها كانت تريد الاطمئنان على أن شيئا من الأمتعة لن يسقط من العربة من جهة، ولأنني كنت أريد التملي في عجائب الدنيا من جهة أخرى. وعلى المقعد الملاصق للمقعد الذي كان يجلس عليه أبي في العربة كان هناك كنزه الأكبر الذي سأحدثكم عنه.
في مزرعة الدواجن حيث تخرج مئات بل آلاف من الفراخ من البيضات، تحدث أحيانا أشياء مفاجئة. فالأشكال المريعة قد تخرج من البيض كما قد تتولد عن الكائن البشري. هي حوادث لا تحدث إلا لماما؛ ربما مرة واحدة في كل ألف ولادة. فرخ يولد بأربع أرجل وأربعة أجنحة ورأسين أو أي شئ من هذا القبيل. لكنه لا يعيش؛ يرجع سريعا إلى خالقه. إن مسألة عدم قدرة الأشياء الصغيرة على العيش هي إحدى مآسي الحياة بالنسبة لوالدي. كانت لديه فكرة أنه لو استطاع أن يمكن فرخة ذات أربع سيقان أو فرخا ذا رأسين من العيش والنمو حتى يصبحا دجاجة وديكا لاكتسب ثروة. كان يحلم أن يأخذ ذلك المخلوق العجيب إلى المعارض الريفية فيعرضه على المزارعين ويصبح غنيا.
في كل الأحوال، عمد إلى الاحتفاظ بالمخلوقات الوحشية التي ولدت في مزرعتنا فوضعها في قارورات زجاجية مليئة بالكحول، وأثناء رحلتنا إلى المدينة وضع القارورات بعناية داخل صندوق وضعه على المقعد الملاصق لمقعده في العربة. كان يوجه حصاني العربة بيد ويمسك الصندوق باليد الأخرى كي لا يسقط. وعندما وصلنا إلى وجهتنا أخذ الصندوق على الفور فأزيلت القارورات منه. وخلال الأيام التي عملنا فيها في مطعم بمدينة بيدويل أوهايو ظلت المخلوقات حبيسة القارورات الزجاجية الموضوعة على رف خلف طاولة المطعم. كانت أمي تحتج على ذلك، لكن أبي كان يصر على الاحتفاظ ب"كنزه". قال إن تلك المخلوقات ذات قيمة عالية لأن الناس في اعتقاده يحبون مشاهدة الأشياء الغريبة والعجيبة.
هل قلت لكم إننا شرعنا في مشروع المطعم بمدين بيدويل أوهايو؟ لقد بالغت قليلا. فالمدينة نفسها تقع بسفح على هضبة منخفض وعلى ضفة نهر صغير. وطريق السكة الحديدية لا يمر بالمدينة ومحطة القطار تبعد ميلا واحدا إلى الشمال في مكان يدعى بيكلفيل. كان هناك مصنع لإنتاج مشروب عصير التفاح وآخر لإنتاج الخضر المصبرة المنقوعة بماء الخل والماء المالح في المحطة. لكنهما توقفا عن العمل قبل قدومنا إلى المدينة. كانت الحافلات تتجه إلى المحطة كل صباح ومساء عبر طريق يدعى تورنرز بارك قادم من أمام فندق على شارع بيدويل الرئيسي. ذهبنا إلى ذلك المكان الذي كان بعيدا عن الطريق كي نشرع في مشروع المطعم الذي كان فكرة والدتي. تحدثت عنه لسنة كاملة ثم ذهبت ذات يوم إلى هناك واكترت محلا فارغا مقابلا لمحطة السكة الحديدية. كانت تظن أن مشروع المطعم سيكون مربحا. قالت إن المسافرين سيلجئون إلى المطعم في انتظار أن يستقلوا القطار إلى خارج المدينة، وأن سكان المدينة سيأتون إلى المحطة لينتظروا القطارات القادمة. سيجيئون إلى المطعم لشراء قطع البطاطس المسلوقة وشرب القهوة. الآن وقد كبرت أعرف أنه كان لديها دافع آخر للذهاب إلى هناك. إنه دافع الطموح إلى مستقبل أفضل من أجلي؛ كانت تريدني أن أرتقي في الحياة وأنخرط في مدارس المدينة ثم أصبح حاكما على المدن كلها.
عمل أبي وأمي في بيكلفيل بكل كد واجتهاد كما تعودا أن يفعلا. في البداية كان ضروريا أن ندخل بعض التعديلات على شكل المحل حتى يصير مطعما. هذه العملية استغرقت شهرا كاملا. أعد أبي رفا وضع فيه علب الخضر المصبرة وكتب اسمه بالأحرف الكبيرة واللون الأحمر على واجهة المحل، وتحت اسمه كتب عبارة "كل هنا" بصيغة الأمر القسري الذي لم يكن يطاع إلا لماما. ثم أحضر صندوقا زجاجيا شفافا ملأه بعلب السجائر والسيجار. وعمدت أمي إلى كنس الفناء وتنظيف جدران المحل.
ذهبت إلى المدرسة في المدينة وكنت مسرورا بالابتعاد عن المزرعة وعن منظر الفراخ الحزينة التعيسة، ولكنني لم أكن قد ذقت طعم السعادة الكاملة بعد. وفي طريق عودتي إلى المنزل مساء في المدرسة في شارع تورنرز بارك تذكرت الأطفال الذين رأيتهم يلعبون في ساحة المدرسة؛ كانت هناك مجموعة من الفتيات يقفزن ويغنين. حاولت أن أجرب ذلك؛ طفقت أقفز على ساق واحدة على طول الطريق المتجمد وأغني بصوت عال: "هيبيتي هوب إلى دكان الحلاق". ثم توقفت وأخذت أنظر حولي في توجس. كنت خائفا من أن يراني أحدهم وأنا في حالتي المرحة تلك. لا بد أنني تصورت أني أفعل شيئا لا يليق بشخص مثلي نشأ في مزرعة للدواجن كان فيها الموت ضيفا معتادا.
وقررت أمي أن يبقى المطعم مفتوحا ليلا. كان هناك قطار للمسافرين يمر من أمام باب مطعمنا في الساعة العاشرة من مساء كل يوم متبوعا بآخر للبضائع. كان على طاقم قطار البضائع أن يحولوا القطار إلى سكة أخرى في بيكلفيل، وعندما يتمون هذه العملية كانوا يجيئون إلى مطعمنا لتناول القهوة الساخنة والطعام. أحيانا كان بعضهم يطلب بيضة مقلية. وفي الرابعة صباحا كانوا يعودون متجهين شمالا ثم يزوروننا مرة أخرى. مشروعنا بدأ يكبر شيئا فشيئا. كانت أمي تنام ليلا وتعتني بالمطعم خلال النهار وتلبي طلبات الزبائن بينما ينام أبي. كان ينام على نفس السرير الذي تنام عليه أمي ليلا. أما أنا فأذهب إلى مدينة بيدويل قاصدا المدرسة. أثناء الليالي الطوال عندما تنام أمي وأنا، كان أبي يطهو الوجبات التي كانت على شكل سندويتشات في سلل الغذاء الخاصة بزبائننا. فجأة قفزت إلى ذهنه فكرة تتعلق بالصعود في الحياة؛ امتلكته روح الرجل الأمريكي. لقد صار هو نفسه طموحا. وأثناء الليالي الطوال، عندما لا يجد أبي ما يفعله، كان يجد الوقت الكافي للتفكير. كان ذلك بداية انهياره. لقد قرر بينه وبين نفسه أنه كان في الماضي رجلا فاشلا لأنه لم يكن بشوشا بما فيه الكفاية، ولذلك فإنه يعتزم أن يتبنى نظرة مرحة للحياة. في الصباح الباكر صعد درجات السلم واتجه إلى سرير أمي التي استيقظت فبدءا يتحدثان. كنت أصغي إلى حديثهما من مكاني في غرفة نومي. كانت فكرة والدي أن يحاول هو وأمي أن يهيئا أسباب التسلية والترفيه للناس الذين كانوا يأتون لتناول الطعام في مطعمنا. لا أستطيع أن أتذكر الآن كلماته، ولكنه أعطاني الانطباع بأنه بصدد أن يصبح منشطا ومسليا عموميا بطرية أو بأخرى.
عندما يأتي الناس، خصوصا شبان مدينة بيدويل إلى محلنا في مناسبات نادرة جدا، تدور حوارات مسلية وممتعة. ومن كلمات أبي في البداية أدرك أن أثر صاحب المطعم المرح يطغى عليه. لا شك أن أمي كانت متوجسة في أول الأمر، لكنها لم تبد أي اعتراض. كان أبي يظن أن عاطفة ما ستتولد في صدور شبان مدينة بيدويل تجعلهم يسعون إلى صحبته هو وأمي. في المساء كانت مجموعات من الشباب السعيد المشرق تقبل عبر شارع تورنرز بارك وهي تغني. كانوا يمرون مجتمعين بمطعمنا وهم من الفرح والضحك في صخب وضجيج. ثم تبدأ الأغاني والاحتفالات. لا أريد أن أعطي الانطباع بأن أبي قد تحدث عن المسألة بإسهاب. فقد كان، كما قلت، رجلا غير قادر على التواصل مع الآخرين. كل ما قاله: " إنهم يرغبون في مكان يحجون إليه. أقول لكم إنهم يرغبون في مكان يحجون إليه". قال ذلك مرارا وتكرارا. وكان ذلك أقصى ما أمكنه أن يقول. خيالي وحده هو الذي جاد بتتمة ما كان يريد أن يقول.
ظلت فكرة أبي هذه طاغية على الأجواء في منزلنا لمدة شهرين أو ثلاثة. لم نكن نتحادث كثيرا، لكننا كنا نحاول في حياتنا اليومية بكل لهفة أن نجعل البسمات تحل محل النظرات الكئيبة. كانت أمي تبتسم في وجوه الزبائن. وكنت، وقد أصابتني العدوى، أبتسم لقطتنا. أصيب أبي بما يشبه الحمى وهو يغالب قلقه من ألا يستطيع إرضاء الزبائن. لا شك أن نفحة من روح الرجل المنشط المسلي كانت تعمل في مكان ما بداخله. لم يستنفد كل طاقته في إرضاء رجال السكة الحديدية الذين كان يخدمهم ليلا، لكنه بدأ ينتظر قدوم فتى أو فتاة من بيدويل فيريه ما يستطيع فعله. على طاولة المطعم كانت هناك سلة مصنوعة من الأسلاك ممتلئة بالبيض. وردت إلى ذهنه فكرة أن يصبح مسليا. شئ فطري كان يجعل للبيض صلة بتطور تلك الفكرة.
في وقت متأخر من الليل استيقظت على صرخة غضب قادمة من حجرة أبي. كلانا، أمي وأنا، استوينا جالسين على سريرينا. وبيدين مرتعشتين أشعلت أمي سراجا كان على مائدة قريبة من رأسها وسمعنا باب المطعم يغلق بشدة وعنف. وفي غضون دقائق قليلة سمعنا صوت قدمي أبي وهما يخبطان على درجات السلاملك. كان يحمل بيضة في يده التي كانت ترتعش كأنه كان مقرورا. لمع بريق من شبه الجنون في عينيه. عندما وقف ينظر إلينا كنت موقنا من أنه كان يعتزم أن يقذف بالبيضة في وجه أحدنا؛ إما أمي أو أنا، لكنه وضعها برفق على المائدة إلى جانب السراج ثم جثا على ركبتيه بمحاذاة سرير أمي. شرع يبكي مثل طفل وشرعت أنا أبكي معه وقد نال مني حزنه. كلانا ملأ الغرفة العلوية الصغيرة بالعويل. كان أمرا مضحكا لكن كل ما أذكره من ذلك المشهد كان حركة يد أمي وهي تربت بتتابع على الجانب الأصلع اللامع من رأس أبي. نسيت ما قالته أمي له وكيف أقنعته أن يخبرها بما حدث في الأسفل. كذلك تاه عن بالي ما قاله هو. كل ما أذكره هو حزني وخوفي ورأس أبي الأصلع اللامع وهو يعكس ضوء السراج، وهو جاث على ركبتيه بمحاذاة السرير. أما ما حدث في الأسفل فقد كنت أعرف القصة لسبب مبهم كأنني كنت شاهدا على حيرة أبي. أحيانا يحدث أن يطلع المرء على أشياء غير قابلة للتفسير.
في ذلك المساء قدم الشاب جو كين وهو ابن لأحد التجار في بيدويل إلى بيكلفيل للقاء والده الذي كان منتظرا أن يصل في قطار الساعة العاشرة مساء قادما من الجنوب. تأخر القطار ثلاث ساعات فجاء جو إلى مطعمنا ليزجي بعض الوقت في انتظار وصوله. في أثناء ذلك وصل قطار البضائع المحلي وجاء طاقمه لتناول الطعام عندنا. ثم انصرفوا ليبقى جو وحده في المطعم مع أبي.
من اللحظة الأولى التي جاء فيها الشاب إلى محلنا بدا واضحا أنه استغرب أفعال أبي. فكر أن أبي كان غاضبا من وجوده هناك. لاحظ أن صاحب المطعم أظهر الانزعاج من حضوره وفكر أن يغادر المحل، غير أن السماء بدأت تمطر فلم يستحسن فكرة العودة إلى المدينة ويقطع ذلك الطريق الطويل. اشترى سيجارا بخمسة قروش وطلب كوبا من القهوة. كان يحمل جريدة في جيبه فأخرجها وبدأ يقرأ وهو يقول كالمعتذر: "إنني أنتظر قطار المساء. لقد تأخر". طفق أبي يحملق بصمت في وجه الزائر الذي لم يكن قد رآه من قبل لوقت طويل. لا بد أنه كان يعاني من نوبة الهلع التي تنتاب عادة أولئك الذين يصعدون الخشبة لأول مرة. ذلك شئ يحدث مرارا في الحياة. لقد أطال التفكير في مثل هذا الموقف من قبل فلما حدث واجهه بعصبية ظاهرة؛ مبدئيا لم يعرف ماذا يفعل بيديه فضرب بإحداهما على الطاولة بعصبية وصافح جو كين بالأخرى قائلا: "تشرفنا". وضع جو كين الجريدة وحدق فيه. لمعت عينا أبي على واجهة سلة البيض الموضوعة على طاولة المطعم وبدأ يتكلم. قال بتردد: "حسنا، حسنا. سمعت عن كريستوفر كولومبوس، أليس كذلك؟" بدا كأنه كان غاضبا حين قال بحدة: "كريستوفر كولومبوس هذا كان مخادعا. لقد زعم أنه يستطيع أن يجعل البيضة تقف على أحد حديها، نعم لقد قال ذلك ولكنه ذهب فكسر حد البيضة".
لقد بدا للزائر أن أبي فقد صوابه من الانفعال وهو يتحدث عن مكر كريستوفر كولومبوس. كان يغمغم بكلمات بذيئة. قال إنه من الخطأ أن نعلم الأطفال أن كريستوفر كولومبوس كان رجلا عظيما طالما أنه كان يخادع في اللحظات الحرجة على كل حال. لقد أعلن أنه يستطيع أن يجعل البيضة تقف على أحد حديها، وحين انكشف خداعه لجأ إلى الحيلة.
أخذ أبي بيضة من السلة الموضوعة على الطاولة وهو ما يزال يتحدث بتذمر عن كريستوفر كولومبوس، ثم بدأ يمشي جيئة وذهابا. جعل يدير البيضة بين كفي يديه ثم ابتسم بمرح. أخذ يتمتم بكلمات عن التأثير الذي يحل بالبيضة من الكهرباء التي تسري من جسد الإنسان. قال إنه يستطيع أن يجعل البيضة تقف على حدها دون أن يكسر غشاءها بأن يديرها بين كفي يديه. أوضح أنه بفضل دفء يديه وبفضل التحريك اللولبي اللطيف للبيضة خلق مركزا جديدا للجاذبية. كان جو كين يتابعه بشئ من الاهتمام. قال أبي: "لقد تعاملت مع آلاف البيضات ولا أحد يعرف عن البيض أكثر مما أعرف". وضع البيضة على الطاولة فسقطت على أحد جانبيها. حاول أن يعيد الكرة مرة أخرى وهو يدير البيضة بين كفي يديه ويتفوه بكلمات عن عجائب الكهرباء وقانون الجاذبية. استمر يحاول ذلك مدة نصف ساعة، فلما نجح أخيرا في جعل البيضة تقف على حدها رفع رأسه للحظة فوجد الزائر لم يعد يتابعه. في الوقت الذي تمكن فيه من استثارة انتباه جو كين إلى نجاح محاولاته كانت البيضة قد انقلبت وسقطت على جانبها. بدا أبي مغالبا شعوره الطاغي كرجل تنشيط وتسلية ومغتما أشد الغم لفشل محاولاته الأولى. لكنه أخذ القارورات التي تحتوي على الفراخ ذات الخلق المشوه من مكانها فوق الرف وأخذ يريها للزائر متسائلا: "هل سبق لك أن رأيت مخلوقا ذا سبعة أرجل ورأسين كهذا من قبل، يا صاحبي؟" وأشار إلى الكائن الأكثر غرابة من بينها وابتسامة مرحة ترتسم على وجهه. اقترب من طاولة المحل محاولا أن يربت على كتف جو كين كما رأى الرجال في صالون بينهاد يفعلون من قبل عندما كان مزارعا صغيرا وكان ينزل إلى المدينة مساء كل سبت. شعر الزائر بتقزز من منظر جسم الطائر المشوه وهو يطفو فوق السائل الكحولي في القارورة ثم قام يريد الانصراف. خرج أبي من وراء طاولة المحل وأمسك بذراع الشاب وأرجعه إلى مقعده.
شعر بشئ من الغضب وأشاح بوجهه للحظة محاولا الابتسام. ثم وضع القارورات مرة أخرى على الرف. اجتاحته نوبة كرم فأجبر جو كين على تناول كوب من القهوة الساخنة وقدم له سيجارا آخر على حسابه. ثم أخذ آنية ملأها بخل صبه من ماعون موضوع تحت الطاولة، وأعلن أنه بصدد القيام بلعبة جديدة. قال: "سأضع هذه البيضة في هذه الآنية المليئة بالخل وأضعها على النار كي تسخن قليلا، ثم أضعها في فوهة قارورة دون أن أكسرها. وحين تصير البيضة داخل القارورة ستسترد شكلها الطبيعي ويعود غشاؤها صلبا كما كان. ثم أعطيك القارورة والبيضة داخلها. سيسألك الناس كيف أدخلت البيضة في القارورة؟ لا تجبهم. سيكون أمرا مسليا القيام بهذه اللعبة". ابتسم أبي وغمز لضيفه. أقر جو كين بينه وبين نفسه أن الرجل قبالته يبدو مخبولا شيئا ما لكنه غير ذي ضرر. شرب كوب القهوة الذي قُدم له ثم عاد ليقرأ الجريدة مرة أخرى. عندما صارت البيضة ساخنة في آنية الخل أخذها أبي بملعقة إلى الطاولة ثم ذهب إلى غرفة خلفية لإحضار قارورة فارغة. كان غاضبا لأن الزائر لم يكن يشاهد ما يفعل، لكنه واصل عمله بنشاط. كافح طويلا وهو يحاول عبثا إدخال البيضة في فوهة القارورة. فلما فشل وضع آنية الخل مرة أخرى على الفرن معتزما تسخين البيضة ثانية، ثم أخذها وأصابعه تكاد تحترق. لانَ غشاء البيضة قليلا بعد أن تم تسخينها للمرة الثانية، لكن ذلك لم يكن كافيا كي تتم اللعبة. حاول ثم حاول بعناد وقد بدأ يتملكه شعور باليأس. وحين اعتقد أخيرا أن اللعبة أوشكت على أن تصبح ممكنة وصل القطار المتأخر إلى المحطة فقام جو كين معتزما الذهاب بدون اكتراث.
قام أبي بمحاولة يائسة أخيرة لإخضاع البيضة وجعلها تقوم بالشئ الذي يجعله أهلا لأن يكون منشطا مشهورا يعرف كيف يسلي ضيوفه الذين يقصدون مطعمه. عبث بالبيضة بخشونة مفتعلة. بدأ يتذمر وقطرات العرق تنز من جبينه. لقد تكسرت البيضة في يده، وعندما اندلق محتواها على ثيابه التفت جو كين الذي كان واقفا عند الباب وشرع في الضحك. انطلق زئير الغضب من حنجرة أبي. طفق يرتجف من شدة الغضب ويقذف بسيل من الكلمات المتقطعة. أمسك بيضة أخرى من السلة على الطاولة ورمى بها بكل قوته فأخطأ رأس الشاب الذي راغ إلى باب المحل هاربا.
صعد أبي إلى الأعلى قادما نحونا، أمي وأنا، حاملا البيضة في يده. لم أكن أعرف ما كان ينوي فعله. تصورت أنه كان يفكر في تكسيرها وتكسير البيض كله، وأنه كان يريدنا ـ أمي وأنا ـ أن نراه يفعل ذلك. لكنه حين وقف قبالة أمي بدا أن شيئا ما قد حدث له. لقد وضع البيضة برفق على المائدة وجثا على ركبتيه قرب السرير كما أوضحت آنفا. قرر بعد ذلك أن يغلق المطعم في الليل ويصعد إلى أعلى قاصدا السرير. ثم أطفأ النور وانخرط هو وأمي في حوار طويل غير مسموع ونام.
يُفترض أني ذهبت للنوم أيضا، لكن نومي كان مضطربا. فقد أفقت عند الفجر وطفقت أنظر إلى البيضة الموضوعة على المائدة لوقت طويل. تساءلتُ لِمَ كان ضروريا أن يوجد البيض؟ ولِمَ تخرج الدجاجة من البيضة كي تضع بيضا جديدا؟ سرى السؤال في دمي واستقر فيه لأني ـ كما أتصور ـ ابن أبي. على كل حال، ظلت المشكلة في ذهني غير قابلة للحل؛ أدركت أخيرا أن ذلك ليس إلا دليلا آخر على انتصار البيضة التام، على الأقل فيما يتعلق بأسرتي.

الامير الصغير

هولز, هو ولد صغير شجاع والده صياد. في بداية الفيلم, يكون هولز في وسط معركة مع مجموعة كبيرة من الذّئاب, ويحاول التغلب عليهم بواسطة فأس صغير.
أثناء المعركة تتحرك الأرض من تحته، ويخرج له روكور العملاق الحجري الذي ايقضه هولز من النّوم بعد قرون بسبب هذه المعركة. و هنا يتصادق هولز مع العملاق بإزالة سيف كبير حشر بعمق في صخرة كتفه، حيث كان السيف يسبب الم له. و يطلق روكور على السيف اسم سيف الشمس و يخبره انه هولز سيحتاج للسيف للقضاء على ملك الثلج جرنوالد .
يعود هولز إلى بيته، و يخبره والده المريض قبل أن يموت ان قريتهم قد دمّرت بالسحر من قبل ملك الثلج الشرير (جرنوالد) عندما كان هولز طّفلا . كان هولز ووالده هم الناجين الوحيدين من هذه المأساة ، و طلب الأب من هولز العودة إلى القرية والعيش مع اهلها.
يصل هولز إلى القرية، ويعيش مع اهلها، وأثناء ذالك يقضي هولز على سمكه متوحشه تابعة لملك الثلج جرنوالد التي كانت تقضي على الاسماك وتمنع أهالي القرية من الاستفادة منها.
وفي يوم من الايام وأثناء مطاردة هولز للذئاب، يلتقي هولز بافتاة هيلدا في قرية مهجورة غارقة في المياه، وتكون هيلدا وحيده مع صديقها (شيرو) السنجاب الطيب، و(توتو) ألبومه الشريرة، ويأخذ هولز هيلدا معه إلى القرية دون أن يعلم أنها شقيقة الساحر جرنوالد.و بوجود هيلدا في القرية تزداد قوة الساحر الشرير. و يحاول الساحر جرنوالد القضاء على القرية واهلها، لكن هيلدا تقوم بمساعدة هولز و أهالي القرية ، ويرسال ساحر جرنوالد بارسال الذئاب الفضيه للقضاء على القرية و هولز و لكن أهالي القرية يحاولون التصدي للساحر و الذئاب الفضيه، وتهاجم الذئاب الفضيه هيلدا في وسط الثلج فتسقط مغميا عليها.
و في هذا الوقت يحارب هولز الساحر بمساعدة أهالي القرية، و كذلك يساعده صديقه العملاق الحجري روكو، و يقضي روكو على الفيل الثلجي التابع للساحر.
وبستعمال سيف الشمس يحارب هولز الساحر و بعد معركة شديده يقضي عليه. و هنا يظن أهل القرية ان هيلدا ماتت. و تستيقض هيلدا مستغربه انها لا تزال حيه، و تعود للقرية ، و يفرح هولز و سكان القرية و يحتفلون معا.

الرجل بدين

في مساء من شهر تشرين الثاني إرتكبت في أوسلو عاصمة النرويج جريمة رهيبة. ففي بيت مهجور من بيوت الضواحي قتل أحدهم صبية صغيرة.
الصحف أعلمت بذلك بصورة مسهبة ومفصلة. وفي نهارات تشرين الثاني القصيرة والممطرة كان الناس يقفون في الشارع أمام ذلك البيت وينظرون الى جدرانه. الضحية كانت طفلة أحد العمال مما أيقظ في أذهان الجميع الإستياء المرتبط بأحوال الظلم القديمة.
تعقب البوليس أثرا واحدا لاغير. فقد أفاد صاحب دكان في ذلك الشارع بأنه في اليوم الذي أرتكبت فيه الجريمة حين أغلق دكانه مساء رأى رجلا بدينا ممسكا بيد تلك الطفلة المنكودة.
إعتقل البوليس بضعة متشردين ومعهم عددا من الرجال المشبوهين. الا أن أمثال هؤلاء ليسوا بالبدن عامة. وهكذا بحث البوليس في مكان آخر ، بين التجار والموظفين. كذلك صارت النظرات مصوبة الى كل بدين في الشوارع.
في الوقت ذاته كان هناك طالب شاب إسمه كريستوفر لوندون يستعد الى الإمتحان بمجهود كبير. قدم الى المدينة من شمال النرويج حيث يسود النهار طوال نصف السنة، والليل في النصف الثاني منها. ويختلف الناس هناك عن بقية النرويجيين. وفي عالم الحجر والسمنت كان كريستوفر معتلا بسبب الحنين الى التلال والبحر المالح.
كان أقرباؤه الذين بقيوا في ( نوردلاند) فقراء ولم يعرفوا شيئا عن تكاليف المعيشة في أوسلو. وهو لم يرد إزعاجهمم بطلب النقود. إشتغل بارمان في فندق ( غراند هوتيل ) من الساعة الثامنة مساء الى منتصف الليل ، لكي يكمل دراسته. كان فتى وسيما دمث الأخلاق أدى عمله بإخلاص وشطارة. لم يقرب الشراب الا أن إعداده للآخرين كان بمثابة نوع من الإهتمامات العلمية لديه.
بهذه الصورة واصل دراسته. غير أنه لم يبق لديه الكثير من الوقت للنوم والعلاقات العادية مع الآخرين. لم يقرأ أي كتاب عدا كتب الدراسة بل لم يكن يلقي ولو نظرة واحدة على الجرائد، ولذلك لم يعرف ماكان يجري حواليه. كان مدركا بأنه لايملك أسلوبا سليما في العيش لكن كلما إزداد نفوره من حالته بذل جهدا أكبر في العمل الذي وجده مخرجا من هذا الوضع.
في البار كان متعبا على الدوام حتى أنه كان يغفو أحيانا بعينين مفتوحتين. الضوء الساطع وضجة الأحاديث أثارتا شعورا فيه بأن كل شيء يدور أمام عينيه. غير أنه عند العودة الى البيت بعد منتصف الليل كان الهواء ينعشه ويطرد النعاس. عند دخوله الى الغرفة كان يعرف كل مرة بأنها ساعة خطرة ، فإذا خطرت بباله فكرة ما ، تبقى هي هناك بصورة فعلية لكن غير طبيعية مما يحول دون إنقياده الى النوم، و لهذا السبب لم يقدر على أن يواظب على الدرس في اليوم التالي. كان يعد نفسه بأنه سيقرأ هذه المرة ، لكنه بعد خلع الملابس يغلق عينيه وتنتهي يقظته.
رغم هذا الحذر وقع نظره ذات ليلة على الجريدة التي كان قد لفّ بها قطعة من السجق. بهذه الصورة قرأ عن الجريمة. كانت هذه الجريدة قد صدرت قبل يومين ، وأكيد أن الناس حواليه كان يتكلمون طوال الوقت عن هذا الموضوع لكنه لم يسمع شيئا. كانت الجريدة ممزقة وأفتقدت فيها نهايات الجمل لذلك أضطر الى الإستعانة بالمخيلة. بعدها لم يستطع أن يطرد من رأسه هذه القضية.
كلمتا ( الرجل البدين ) دفعتاه الى أن يستعرض في ذاكرته جميع الناس البدن الذين كان يعرفهم . في الأخير توقف عند أحدهم.
كان هذا أحد الجنتلمانات الأنيقين والبدن من مرتادي البار الذي يعمل الشاب فيه. وعرف كريستوفر أن هذا الجنتلمان هو أديب، شاعر من مدرسة خاصة من النوع المتفنن ونصف غيبية. كان كريستوفر قد قرأ بضعة أشعار له وبهره ذلك الإنتقاء الغريب والتذوق المبالغ فيه للكلمات والرموز، وخيل له أنها قد ملئت بألوان الزجاج الكنائسي القديم. كان هذا الفنان يكتب على الغالب عن أساطيرالقرون الوسطى وأسرارها . وفي ذلك الشتاء كانت تعرض في المسرح تمثيلية له بعنوان( المتذئب ). كانت مفزعة إذ يكفي الأشارة هنا الى العنوان ذاته ، لكن فرادتها كانت تكمن ، بالأحرى ، في ذلك الجمال والحلاوة. كان مظهر المؤلف نفسه ملفتا للنظر. كان بدينا ذا شعر غامق اللون ومجعّد، ووجه كبير أبيض اللون. أما شفتاه فكانتا حمراوين وصغيرتين، والعينان شاحبتين بشكل غير مألوف. سمع كريستوفر أن هذا الشاعر كان في الخارج كثيرا من المرات. كان من عادته الجلوس وظهره الى البار وطرح نظرياته الغريبة على حلقة من الشباب المعجبين به . كان إسمه أوسفالد سينين.
لقد إستحوذ شخص هذا الشاعر على نفس كريستوفر. ولليال طويلة كان يخيل له أنه يرى أمامه وجه المشبوه والذي يعبّر بدون إنقطاع عن شيء آخر. أخذ يشرب الماء البارد الا أنه لم يبّرد جسمه. فكر بأن هذا الرجل البدين من ( غراند هوتيل ) هو ذلك البدين من الجريدة.
في الصباح لم تخطر بباله فكرة أن يقوم بدور المتحري. ولو أنه ذهب الى البوليس لما تغير شيء في المسألة ، إذ لايقدر على تقديم أي حقائق ، أي براهين ، أي دوافع . فهذا الرجل يملك أدلة على براءته، ولضحك هو وأصدقاؤه وظنوا أن الشاب قد أصيب بخبال أو قد يدفعهم الإستياء الى تقديم شكوى الى مدير الفندق وحينها سيفقد كريستوفر عمله.
طيلة أسابيع ثلاثة كان هناك ممثلان في هذه المسرحية: البارمان الشاب الجهم والشاعر المبتسم أمام البار. الأول حاول ان يهرب طوال الوقت من هذه اللعبة بينما لايعرف الثاني أي شيء عنها. مرة واحدة إلتقت نظرات البطلين.
بعد بضعة ايام من معرفة كريستوفر بالجريمة جاء أوسفالد سينين مع صديقه. لم يرد كريستوفر أن يسترق السمع الى حديثهما حين وجد نفسه ، بحكم عمله، في ذلك الجزء من البار حيث يجلس الصديقان.
كانا يتحدثان عن الوهم والحالة الفعلية. صديق الشاعر قال بأنه لابد من وحدة كلتى الحالتين ولذلك فإن وجودهما هو موفق بطريقة غامضة. الا أن الشاعر البدين لم يتفق مع محدثه ، وكان عليه أن يعزل الأولى عن الثانية بحذر أكبر من حذر الآخرين . أضاف قائلا : ليس المقصود هو الغبطة التي تمنحها الإثنتان ، فغريزتي تفرق بينهما. أنا أعرف ما هو الوهم حين ألتقي به وكذلك أعرف الحالة الفعلية حين ألقاها.
رسخ هذا الجزء من الحديث في ذهن كريستوفر. كان يكرره على نفسه مرات كثيرة، وفكر بنفسه ، ولكم من مرة ، بمفهوم السعادة. أراد أن يعثر على الجواب على السؤال فيما إذا كان هناك شيء من هذا القبيل قائما بالفعل.. كما تساءل فيما إذا كان أحدهم سعيدا ومن هو. كرر الرجلان الجالسان أمام البار هذه الكلمة مرات كثيرة. إذن قد يكونان سعيدين. وهذا البدين أقرّ بوجود الحالة الفعلية حين يلقاها وقال بنفسه إنه سعيد.
تذكر كريستوفر شهادة صاحب الدكان الذي قال بأن وجه الصغيرة ( ماتيا ) حين مرت أمامه في الشارع الغارق بالمطر كان مشرقا يعبرعن سعادتها كما لو أن الصبية الصغيرة قد وعدت بشيء أو كانت تتوقع شيئا هرعت صوبه. ذاك الرجل الذي كان معها؟. فكر الطالب : هل إرتسمت السعادة على محياه أيضا؟. لم يسعف الوقت صاحب الدكان برؤية وجه ذلك الرجل بل رأى قفاه فقط.
طفق كريستوفر يراقب هذا الرجل كل ليلة. في البدء إعتبر محض نكتة مكدرة من نكات الحظ أن عليه القيام بهذه المراقبة كلما كان الرجل في محيط النظر بينما هو لايعرف شيئا عن وجود رفيق له مثل كريستوفر. الا أنه بعد وقت ما أخذ يؤمن بأن المراقبة المتواصلة تلقي بتأثير معيّن على المشتبه به وأنه بعد زمن ما سيحصل تبدل في المراقب بفعل المراقبة. لقد إزداد هذا الرجل سمنة وشحب وجهه كما تعمق صفاء عينيه. وفي مرات عدة كان شارد الذهن مثل كريستوفر. وذلك السيل المدغدغ من الكلمات التي كان يطلقها صار أبطأ الآن، وإنفلت فجأة كما لو أن خطيبا بليغا لم يفلح في العثور على الكلمات المناسبة.
عندما يبقى أوسفالد سينين في البار حتى يأزف موعد غلقه كان كريستوفر يغادر المكان. وعندما كانوا يساعدون موضع المراقبة في إرتداء المعطف الفرائي كان كريستوفر بإنتظاره عند مدخل الفندق. في معظم الأحيان كانت تقف هناك سيارة سينين الضخمة التي تمضي في البعيد حال صعود الشاعر اليها. غير أنه حصل مرتين أن غادر المكان ومضى سائرا في الشارع. حينها تعقبه كريستوفر الذي شعر كما لو أنه مخلوق وضيع فظ يعود الى المدينة والليل ، متربص بإنسان لم يلق منه أي سوء. لم يكن كريستوفر يعرف شيئا عن هذا الرجل، كما أخذ يضمر الكره لهذه الهيئة التي يمضي وراءها. في أثناء النزهة الثانية مضى الى الأمام طوال الوقت في حين أن الشاب بدأ يفكر بأن حركة الرأس تلك لم تكن من صنع مخيلته.
في إحدى الأمسيات إلتفت الشاعر في مقعده العميق ونظر الى البارمان.
وفي نهاية تشرين الثاني تذكر كريستوفر فجأة أنه بعد أسبوع عليه أن يؤدي الإمتحان. أفزعه الأمر وبدأ ضميره يعذبه. فكر بمستقبله وأقربائه في ( نوردلاند). وهذه المخاوف الداخلية إزداد سحقها. كان عليه أن يخرج من دوامة هذه الهواجس وإلا فإنها ستقوده الى الخراب.
حينها حدث شيء غير متوقع. في مساء ما إستعد أوسفالد سينين الى مغادرة البار. الأصدقاء حاولوا إبقاءه الا أنه رفض رغبتهم.
- كلا - ردّ عليهم - انا بحاجة الى الراحة. لابد أن أستريح.
حين غادرهم قال أحد أصدقائه:
- إنه لايبدو على ما يرام . لقد تغيّر كثيرا. هناك أمر لانعرفه.
وقال صديق آخر :
- إنها تلك القضية التي تلاحقه منذ أن كان في الصين. لدى المرء اليوم إنطباع بأن نهايته ستكون قبل أن ينقضي هذا العام.
عندما سمع كريستوفر هذه الملاحظات من العالم الخارجي والفعلي شعر فجاة بإرتياح بالغ. بالنسبة الى هذا العالم كان ذلك الرجل واقعا فعليا على الأقل. فالناس كانوا يتكلمون عنه.
سيكون أمرا جيدا ، فكر كريستوفر ، قد يأتي بحل ليس بالسيء إذا إستطاع أن يناقش المسألة برمتها مع أحدهم.
في كل الأحوال لم يختر أمين سرّه زميلا من زملاء الدراسة. تصور أن أيّ نقاش مع مثل هذا الزميل ستثيره القضية. صار حتى التفكير بهذا الأمر يشوش باله. وهكذا توجه بطلب المساعدة الى شاب بسيط غير متعلم يصغره سنة ولربما ثلاث. كان يغسل الأواني في البار، وإسمه يلمار .
ولد يلمار وترعرع في أوسلو. عرف عن المدينة كل ما كان ممكنا أن يعرفه ، لكنه لم يعرف شيئا عن كل ماهو خارج حياته. كانا يتبادلان مشاعر الصداقة ، ويلمار كان مغرما بالحديث مع كريستوفر في مكان غسل الأواني ، بعد العمل. كان يدرك أن كريستوفر لن يقاطع حديثه. وكان هناك في بلمار شيء من الثوري ، وفي خطبه الطويلة كان يهاجم زبائن البار الأثرياء المعدومي القيمة الذين يعودون الي بيوتهم بتلك السيارات الفارهة وبصحبة النساء ذوات الشفاه والأظافر الحمر بينما البحارة ذوو الأجور القليلة يسحبون تلك الحبال الملوثة بالقار، والعمال المتعبون يعودون بالحيوانات الى الإسطبلات بعد أن حرثت الأرض. كانت رغبة كريستوفر في أن لايتكلم رفيقه عن هذه القضايا. فنوستالجيا يلمار الى القوارب والقار ورائحة عرق الخيل تصبح بهذه الشدّة التي تتحول الى ألم جسدي. غير أن الرعب المميت الذي إجتاحه حينما فكر بالعودة الى البيت مع إحدى تلك النساء اللواتي تكلم يلمار عنهن، قد أقنعه بأن جهازه العصبي لايعمل كما ينبغي.
عندما تطرق كريستوفر في الكلام الى الجريمة أيقن بأن غاسل الأواني يعرف كل شيء عنها. كانت جيوب يلمار مملوءة بقصاصات الصحف التي قرأ فيها تقاريرا عن الجريمة وإعتقال المشتبه بهم كذلك الرسائل التي تعبّر عن الغضب من البوليس العاجز.
لم يعرف كريستوفر تماما بأي صورة عليه أن يطرح أفكاره على يلمار. في الأخير قال:
- هل تعرف بأنني أعتبر القاتل هو ذلك الجنتلمان البدين من البار.
بحلق يلمار فيه وفغر فاه ثم فطن الى الأمر وأخذت عيناه تلمعان.
بعدها بقليل إقترح غاسل الأواني أن يتوجها الى البوليس أو الى مخبر خاص. وإستغرق بعض الوقت إقناع كريستوفر لصديقه، تماما كما أقنع نفسه من قبل ، بان الأساس ضعيف ، والناس ستعتبرالإثنين من المجانين.
قرر يلمار الذي إنشغل لدرجة أكبر بهذه القضية ، بأن عليهما أن يصبحا مخبرين بأنفسهما.
بالنسبة الى كريستوفر كانت هذه تجربة غريبة، فهي مهدئة ومستنفرة في آن واحد : عليه أن يتحدى كابوسه في ذلك الضوء الأبيض الساطع في مكان غسل الأواني كما يمسك الغريق بمنقذه. وتملكه الخوف من أنه قد يجرّه في كل لحظة الى بحر الجنون المظلم.
في المساء التالي قال يلمار بان يعّدا هما الإثنان خطة تعمل على مفاجأة القاتل وعلى نزع القناع عنه. خلال وقت معين إستمع كريستوفر الى شتى إقتراحات هذا الشاب، ثم إرتسمت إبتسامة خفيفة على محياه . قال:
- يلمار. أنت تملك مثل هذا القدر من الإستقامة... - توقف عن الكلام - كلا، أكيد أنك لاتعرف هذا الشيء. لكن رغم كل شيء إسمح لي بان أقول أكثر :
"(...)لقد سمعت
أن المذنب الذي يشاهد المسرح
يحرّك الفن أحيانا مشاعره
ويأتيه الندم ويعترف جهارا بالجريمة .
قد لاتملك الجريمة لسانا
لكنها تنطق بوسيلة مدهشة ".
قال يلمار :
- أنا أفهم الأمر تماما.
- أحقا يا يلمار ؟. أزاء هذا أضيف القول:
" أنا أقبض على ضمير الملك
والمكان هو هذه المسرحية"
- من أين هذه الأشعار؟. أراد غاسل الواني أن يعرف.
- من مسرحية بعنوان ( هاملت ) . أجاب كريستوفر.
- وكيف تريد أن تفعل هذا الشيء؟ . سأل يلمار ثانية .
صمت كريستوفر للحظات .
- إسمع يا يلمار - قال في الأخير - قلت إن عندك أختا.
- نعم - أجاب بلمار - عندي خمس .
- لكن عمر إحداهن تسع سنوات أي بعمر ( ماتيا )؟.
- هذا صحيح .
- ولديها - واصل الطالب كلامه- معطف مدرسي بقلنسوة مثل معطف ( ماتيا) الذي كانت ترتديه في تلك الليلة؟.
- نعم.
إرتعش جسم كريستوفر. في الكوميديا التي إعتزما أن يؤدياها كان هناك شيء تجديفي، ولما قدر على مواصلتها لو لم يكن قد حدس بأن هذا يعتمد ، بمعنى ما ، على أمر واحد : هل سيحتفظ بحسّه السليم.
- إسمع يا يلمار ، سنختار المساء الذي يكون فيه هذا الرجل في البار ، ونقنع أختك بإرتداء معطفها، ونرجو أختا اخرى بأن تقودها الى هنا. قل لها أن تتوجه مباشرة من الباب الى حاجز المقصف ،عبر الصالة كلها لكي تسلمني شيئا... رسالة أو أي شيء تريده أنت. أنا أعطيها شلنا ولتأخذه من على المقصف حين تضع الرسالة، وبعدها لتخرج بذات الطريقة.
- طيّب.
- أما أنا فعليّ البقاء - واصل البارمان كلامه- وراء المقصف . سوف لن نرى وجهه، فهو عادة يجلس وقفاه صوبي ويتحدث مع الناس. أما أنت فأترك الغسل وإذهب الى الباب. من هناك ستقدرعلى مراقبته.
- لاحاجة الى مراقبته - قال يلمار - أكيد أنه سيصرخ أو يغمى عليه أو ينهض فجاة ويهرب.، وإذا أردت ان تعرف.
- غير مسموح به - حذره كريستوفر - أن تقول لأختك لماذا نأمرها بالمجيء الى هنا.
- بالطبع.
وفي ذلك المساء الذي كان على التجربة أن تحدث بقي يلمار صامتا ومرّكزا الإنتباه على مهمته، في حين أن البلبلة كانت تسود فكر كريستوفر. لمرات عديدة كان على وشك التراجع عن الخطة. لكن حتى لو فعل ذلك وأبدى يلمار التفهم وغفره له فكيف سيكون حاله بعدها ؟.
كعادته جلس أوسفالد سينين في مقعده وظهره الى البار. وقف كريستوفر وراءه. أما يلمار فكان في الصالة وراء الباب الدوّار الذي كان على أخته أن تدخل منه وفق الخطة.
وعبر زجاج الباب رأى الطفلة بمعطفها ذي القلنسوة المزينة بريشة حمراء ، وبرفقة أختها الأكبر منها إذ أن الناس لم يسمحوا للطفل بالخروج الى الشارع لوحده في أماسي الشتاء . وفي الوقت ذاته جرّ إنتباهه شيء في الصالة لم يلحظه من قبل. ففي كلا جانبي الباب الزجاجي كانت هناك مرايا عالية يقدر بواسطتها أن يرى الوجوه التى لاتقابله. في تلك المرايا رأى الآن وجه أوسفالد سينين.
لم تقدر الصبية الصغيرة بمعطفها ذي القلنسوة على فتح الباب ، إلا أن شقيقها هرع الى مساعدتها. توجهت بعدها الى البار مباشرة غير مسرعة وغير مبطئة أيضا. وضعت على المقصف الرسالة وأخذت الشلن. عندما فعلت ذلك رفعت قليلا وجهها الشاحب الذي حجبته القلنسوة ، وبشيء من الجرأة إبتسمت لصديق أخيها مؤكدة برّقة على أنها قامت بالمهمة. بعدذلك إستدارت وخرجت غير مسرعة أو متباطئة.
- هل أنت راض ؟ سألت أخاها الذي كان بإنتظارها قرب الباب. هزّ يلمار رأسه موافقا، إلا أن ما فاجأ الطفلة تعبير وجهه لذلك تظرت الى أختها باحثة عن السبب. ظل يلمار واقفا في الصالة لغاية إختفاء الأختين في الشارع الذي كان المطر يجلده . فجأة سأله البوّاب عما يفعله هنا. وهكذا هرع بالسرعة الممكنة الى الباب الخلفي حيث برميل الغسل والكؤوس.
والضيف التالي الذي طلب كأسا من الشراب نظر الى البارمان وسأله:
- ماذا ؟ هل حالك على ما يرام؟.
لم يجبه البارمان . لم يقل شيئا بعدها بساعة حين أغلق البار وذهب الى صديقه في مكان الغسل.
- ماذا يا كريستوفر؟ ألم يصرخ أو يغمى عليه ؟ أصحيح؟.
- كلا.
صمت يلمار للحظة:
إنه صلب - قال - إذا كان هو القاتل.
ولوقت طويل ظل كريستوفر بلاحراك محدقا الى الكؤوس. وفي الأخير سأل صاحبه:
- هل تعرف لماذا لم يصرخ أو يغمى عليه؟.
- كلا - أجاب يلمار - لماذا؟.
- لأنه رأى ما كان يتوقعه فقط. الشيء الوحيد الذي يراه الآن. الباقون أبدوا الإستغراب من منظر الطفلة بمعطفها وهي تدخل البار لقد رأيت وجه الرجل في المرآة. حين ظهرت الصغيرة نظر إليها بإستقامة وتابعها بنظراته عندما خرجت. الا أن تعبير الوجه لم يتغير..
- ماذا تقول ؟ - دهش يلمار . وبعدها بلحظات كرر السؤال بصوت خفيض: ماذا تقول ؟.
- نعم - قال كريستوفر - إن الحال هكذا بالضبط. فإلى أي مكان ينظر لا يرى الآن إلا الصبية بمعطفها. قبلها كانت معه في البار. في الشوارع . في بيته. ومنذ ثلاثة اسابيع.
ساد صمت طويل.
- هل نذهب الى البوليس يا كريستوفر؟. سأله يلمار.
- ليس علينا الذهاب الى البوليس - قال صديقه- ليس علينا أن نفعل أي شيء في هذه القضية. نحن الإثنان فاترا الهمّة أو أننا بالغون في العمر كثيرا. إن خطواتها الخفيفة سترافقه طوال الوقت. ستنظر أختك إليه بالصورة التي نظرت فيها إليّ قبل ساعة واحدة.
قال بأنه يريد أن يستريح . ستمكنه هي من هذه الإستراحة قبل نهاية السنة.


الأحد، 21 ديسمبر 2014

قصة الاورق

أوراق الأشجار خارج نافذتي تبدو رائعة بشكل استثنائي، إنها كغريب تقترب مني، بعد ظلام طويل من الاستغراق في الذات والخوف والخجل من حياتي التي أعيشها. تلك الأشياء جميلة، لأنها لا تعتمد على كوارثنا، وباستمرار تحافظ على دقتها العملية، ووفرتها الإبداعية التي تحققها دون جهد، والتي هي من سمات وخصوصية الطبيعة.
الطبيعة هذا الصباح تبدو رائعة جدا، حيث يمكن تحديدها بانها ذلك الشيء الذي يوجد دون شعور بالإثم، إن أجسادنا في الطبيعة، أحذيتنا وأربطتها بطرفها البلاستيكي الصغير. كل شيء بتعلق بنا وما حولنا في الطبيعة، ومع هذا فان ثمة شيء ما يبعدنا عنها، كتيار الماء المندفع للأعلى والذي يمنعنا من ملامسة القاع الرملي وهو يتضلع ويضيء بأجزاء هلالية من قشرة المحار، الواضحة جدا لعيوننا.
طائر أبو زريق(١) يحط على الغصن خارج نافذتي، انه يبدو ثابتا للحظات وهو يقف برجليه المنفرجتين، قائمتاه الخلفيتان باتجاهي، رأسه ساكن تقريبا في صورته الظلية، الأنحاء المفترس لمنقاره منطبعا في الفضاء الأبيض فوق المستنقع المضبب الداكن، انظرْ له، اني أراه، مانعا نفسي من متابعة سلسلة أفكاري. مددت يدي عبر الزجاج ومسكته وطبعته على الورقة، الآن اختفى، ومع ذلك ثمة بضعة سطور، في الأعلى انه ما زال منفرج الرجلين، كفله الأسمر، رأسه متجمد، خدعة رائعة و ربما غير مفيدة، لكنها خاصتي.
أوراق العنب حينما لا تكون متداخلة في ظلال بعضها انها ذهبية، أوراق كامدة اللون، تأخذ ضوء الشمس دون ان تعكسه، محولة الضوء المحض بجموع أطيافه ومصدره الحياتي، إلى باستيل اصفر كالذي يستخدمه الأطفال في ألعابهم. هنا وهناك ثمة ذبول تحولي، وذلك المتبقي يشع في لون برتقالي متوهج واللون الأخضر للأوراق التي لا زالت طرية، يواصل اخضراره حتى الخريف. اذا تطلعنا محدقين عبر ضوء الشمس فاننا نرى الخضرة الشاحبة للعروق الدقيقة. ظلال هذه الأوراق تسقط على بعضها، وبالرغم من انها مضطربة وغير منتظمة في الريح التي ترسل خشخشة كانسة ومسرعة عبر السقف، ومع هذا انها مختلفة وواضحة إلى حد ما، منطوية على عدد لا يحصى من الإيحاءات المتوحشة، سيوف، أجسام ناتئة، رماح بحواف بارزة متشعبة وخوذ مخيفة، على أية حال في النتيجة النهائية انها غير شريرة. بل على العكس ان تعقيدها يوحي بالإيواء والانفتاح. الدفء والنسيم يدعواني إلى الخارج، عيناي ترتادان الأوراق في البعيد، إنني محاط بالأوراق، أشجار السنديان بأكف صغيرة من اللون البرتقالي، أشجار الدردار بأرياش ضئيلة من الأصفر المبهج، أشجار السماق بلون وردي متوحش. إنني مأخوذ بالهدوء والكون متوهجا بالأوراق. ومع ذلك فان شيئا ما يجرني للوراء، عائدا بي إلى عتمتي الداخلية حيث الإثم هو الشمس.
الأحداث بحاجة إلى إيضاح، لقد أخبرت بأنني أتصرف بعبث وهذا يحتاج إلى وقت لدمج هذا التعبير الجمعي مع حقي التام في القيام بأفعالي الخاصة، على أية حال، اعترف بأنني أخطأت، الأفعال تجسدت، ومتى ما توضحت الأحداث فأن الأفعال تكون لها دوافعها، وتعطى المواقف النفسية للممثلين، الأخطاء ستضاف والشذوذ سيسمى، وان كل النمو الصاخب والغير معتنى به سيشذب بواسطة الشرح واصول النمو المتجذرة في التاريخ، ثم يعود ثانية كما كان، إلى الطبيعة. ماذا أذن؟ أليس هكذا رجوع زائف؟ا بمقدور أرواحنا دخول ملاذ زمن الفناء والغرق برباطة جأش بين انحلال الأوراق؟ لا: اننا نقف في تقاطع مملكتين وليس ثمة تقدم او تقهقر، فقط حافة مستدقة حيث نقف.
أتذكر بوضوح حاد سواد ثوب زوجتي عندما غادرت منزلنا لتحصل على الطلاق، كان الثوب من الساتان الأسود الناعم وبتطريز عند الرقبة، وكانت هيلين تبدو فاتنة فيه، انه ينسجم وشحوبها، هذا الصباح خاصة كانت رائعة، كان وجهها أشهب كليا ومتعبا، ومع ذلك بقي جسدها ذلك الشيء العائد للطبيعة متجاهلا كارثتنا، وظل مظهرها وإيماءاتها اعتيادية دون تنافر، قبلتني بشكل خفيف وهي تغادر، وكلانا شعر بان دعابة هذه الرحلة غير فعالة، بعكس أية رحلة من رحلاتها إلى بوسطن لحضور السمفونية أو إلى بانويت، كانت تتحرك بنفس طريقتها في البحث عن مفاتيح السيارة، نفس الإرشادات السريعة لحاضنة الأطفال، ونفس إمالة رأسها المندفع وهي تجلس وراء مقود السيارة. في النهاية كنت راضيا، مطلقا، دارسا وضع أطفالي بعيني شخص تركهم، فاحصا منزلي كشخص يسترجع لقطات فوتوغرافية لزمن لا يستعاد، سائقا سيارتي حول الحديقة المتعطفة مثل رجل يرتدي سترة واقية ويقطع طريقه عبر النار، كنت أتوقع بان زوجتي تبكي الا انها كانت تبتسم، مذهولة إلا انها جريئة، وأحسست برعب لم اقدر على إيقافه، العتمة الداخلية مزقت أحشائي واحاطت بنا كلانا وأغرقت حبنا.ارتد قلبي للوراء، وما زال، لقد تقهقرت، العالم الطبيعي الذي انوجد فيه حبنا كفّ عن الوجود، عدت بسيارتي، أوراق الأشجار على امتداد الطريق أخبرتني عن أشكالها. ليس ثمة قصة لتقال، عبر التلفون مسكت ظهر زوجتي، وسحبتها من سواد ثوبها ناحيتي، ثم استعديت للألم.
الألم لم يتوقف عن المجيء، كل يوم تقريبا، حصة جديدة تأتي بالبريد، أو بواسطة وجه ما، او بالتلفون، كل يوم لم يتوقف الهاتف عن الرنين، كنت أتوقعه ان يفكّ بعض الاشتباك الجديد للنتائج، جئت للاختفاء في هذا النزل، ولكن حتى هنا، ثمة هاتف، وأصوات الريح وغصون الأشجار الآزة، وحيوانات غير مرئية مشحونة بصمتها الكهربائي، ففي أية لحظة قد تنفجر آلامي وسيُحجب الجمال الغريب للأوراق ثانية.
بعصبية نهضت ومشيت عبر الأرضية، عنكبوت ابيض نجمي الشكل يتعلق في الهواء أمام وجهي، تطلعت إلى للسقف فلم اقدر أن أرى أين كان يعلق خيطه، كان السقف من الجص الناعم، العنكبوت توانى، لقد شعر بحضور جسم غريب ضخم، أرجله البيضاء البديعة امتدت باحتراس وبوزنه الخاص كان بتعلق مدوّما حول خيط لا مرئي. اصطدت نفسي اقف بطريقة طريفة وعتيقة الطراز لمخرّف(٢) ناشدا ان يتعلم درسا من العنكبوت وصرت واعيا لنفسي، ثم أقصيت وعيي النفسي وحضرت بشكل جاد هذه اللحظة.. النجمة الممفصلة والمعلقة بشكل مدبب أمام وجهي، عاجزا عن قراءة الدرس، العنكبوت وأنا كنا متجاورين لكننا متعارضين كونيا، عبر الفجوة التي تفصل بيننا نشعر بالخوف فقط، الهاتف لم يرن. العنكبوت أعاد النظر في دورانه، الريح واصلت تحريك ضياء الشمس، في التمشي خارج النزل طبعتُ الأرضية ببضع أوراق ميتة انضغطت بتسطح كقصاصة كامدة اللون.
وماذا تكون هذه الصفحات سوى أوراق؟ لماذا أنتجها، لا لشيء سوى لتندفع بواسطة الخلق الذاتي إلى الطبيعة، حيث لا إثم؟ الآن المستنقع يمتد كسجادة، انه مخطط باللون الأخضر الداكن وسط مسحة من اللون البني، الأصفر، الأحمر، الأسمر، الكستنائي، وفي الجانب البعيد، حيث الأرض ترتفع فوق مستوى المياه، الأشجار دائمة الخضرة تقتحم الفضاء بتجهم، وخلفها ثمة هضبة زرقاء اللون منخفضة، في هذا الإقليم الساحلي، الهضاب متواضعة جدا لدرجة انها لا تحمل أسماء، لكني أراها للمرة الأولى خلال شهور، اني أراها كأصابع طفل تتشبث بجدار عال وخشن بينما رقبته ممدودة وهو ينظر إلى سقف احد البيوت.
تحت نافذتي يبدو المرج أخضر وبأعشاب هزيلة وهو يمتزج بالأوراق المتساقطة من شجرة الدردار الصغيرة، اني أتذكر كيف جئت في المرة الأولى لهذا النزل، مفكرا بأنني تركت منزلي ورائي، ذهبت للسرير وحيدا وشرعت في القراءة، كشخص يقرأ كتب متفرقة في منزل مستعار، بضع أوراق من طبعة قديمة ل( أوراق العشب)، كان نومي متقلبا، لدرجة اني خلال اليقظة شعرت كأنني ما زلت أقرا في الكتاب، ضوء السماء يرتجف عبر الأغصان العارية لشجرة الدردار الفتية، يبدو انها صفحة أخرى لوالت ويتمان، ومن ثم كنت متفتحا بشكل كلي وضائعا كامرأة مشبوبة العاطفة، حرة وواقعة في الحب، دون ظل في أي زاوية من كينونتي، كانت يقظة رائعة، ولكن في الليلة القادمة عدت إلى منزلي.
الظلال المتوحشة الجاثمة على أوراق العنب انتقلت، وزاوية الرؤية تبدلت، اني أتخيل الدفء يتكأ على الباب، افتح له الباب لأدعه يدخل، ضياء الشمس بتسطح يسقط على قدميّ كشخص نادم.

الأربعاء، 17 ديسمبر 2014

قصة جحا وحمار وابنه

قصة حجا والحمار وابنه

في يومٍ من الأيام كان جحا و ابنه يحزمون أمتعتهم إستعداداً للسفر إلى المدينة 

المجاورة ، فركبا على ظهر الحمار لكي يبدأوا رحلتهم ...

وفي الطريق مروا على قريةٍ صغيرة فأخذ الناس ينظرون إليهم بنظراتٍ غريبة ويقولون 

" أنظروا إلى هؤلاء القساه يركبون كلهما على ظهر الحمار ولا يرأفون به " ، 

وعندما أوشكوا على الوصول إلى القرية الثانية نزل الأبن من فوق الحمار وسار على 

قدميه لكي لا يقول عنهم أهل هذه القرية كما قيل لهم في القرية التي قبلها ، 

فلما دخلوا القرية رآهم الناس فقالوا " أنظروا إلى هذا الأب الظالم يدع إبنه

يسير على قدميه وهو يرتاح فوق حماره " ، وعندما أوشكوا على الوصول إلى القرية 

التي بعدها نزل جحا من الحمار وقال لإبنه إركب أنت فوق الحمار ، وعندما دخلوا 

إلى القرية رآهم الناس فقالوا " أنظروا إلى هذا الإبن العاق يترك أباه يمشي على 

الأرض وهو يرتاح فوق الحمار " ، فغضب جحا من هذه المسألة وقرر أن ينزل هو ابنه 

من فوق الحمار حتى لا يكون للناس سُلْطَةً عليهما ، وعندما دخلوا إلى المدينة

ورآهم أهل المدينة قالوا " أنظروا إلى هؤلاء الحمقى يسيرون على أقدامهم ويتعبون 

أنفسهم ويتركون الحمار خلفهم يسير لوحدة " ، ...فلما وصلوا باعو الحمار.

قصة جحا والحمير

اشترى جحا عشرة حمير فركب واحدا منها وساق تسعة أمامه، ثم عدّ الحمير ونسى 

الحمار الذي يركبه فوجدها تسعة، فنزل عن الحمار وعدها فوجدها عشرة، فركب مرة 


ثانية وعدها فوجدها تسعة، ثم نزل وعدها فوجدها عشرة وأعاد ذلك مراراً فقال: أنا 

أمشي وأربح حمارا خير من أن أركب ويذهب مني حمار فمشى خلف الحمير حتى وصل إلى 

منزله.

قصة جحا وحمار

قصة جحا والحمار

راد جحا ان يشتري حمارا فذهب الى السوق

توقف عند حمار اعجبه،

وقال لصاحبه بعد جدال على الثمن :

هذا كل ما معي الان

فإما ان تبيعني الحمار او انصرف لحالي !!

وأخيرا وافق الرجل ..


ومشى جحا يجر الحمار خلفه ..

فرآه اثنان من الصوص ، فأتفقا على سرقة الحمار .

تسلل أحدهما بخفة وفك الحبل من رقبة الحمار دون ان يشعر جحا بشىء .

وربط رقبته هو بالحبل . كل ذلك وجحا لا يشعر بما يجري .

مشى اللص خلف جحا بينما اللص الاخر بالحمار .

وكان المارة من الناس يرون ذلك

ويتعجبون لهذا المنظر ، ويضحكون ..

وجحا يتعجب في نفسه ويقول :

لعل تعجبهم وضحكهم يرجع الى انهم

معجبون بحماري !!

ولما وصل جحا الى البيت التفت


خلفه الى الحمار فرأى الرجل ، الحبل في رقبته !!


فتعجب من امره وقال له :

من انت ؟

فتوقف اللص باكيا وأخد يمسح دموعه

قائلا :

ياسيدي انا رجل جاهل أغضبت امي ..

قال جحا ثم ماذا ؟

قال اللص : فدعت اامي علي وطلبت من الله ان يمسخني حمار

فأستجااب الله دعاءها

ولما رأى اخي الكبير ذلك اراد ان يتخلص مني

فعرضني في السوق للبيع

وجئت اشتريني وببركتك وبفضولك

رجعت إنسانا كما كنت .. !!

وأخد اللص يقبل يد جحا داعيا شاكرا فصدقه جحا

وأطلقه بعد ان نصحه بأن يطيع امه ويطلب منها الصفح

والدعاء ..!!

وفي اليوم التالي توجه

جحا الى السوق

ليشتري حمارا

فرأى الحمار نفسه

فعرفه !!

واقترب جحا من الحمار وهمس في اذنه قائلا :

يظهر انك لم تسمع كلامي ،

واغضبت امك مرة ثانـــية , والله لن اشتريك

ابدا … !!!


الثلاثاء، 16 ديسمبر 2014

جبال الدموع

في اليابان العتيقة، ومنذ عهد بعيد جداً، كان هناك جبل يدعى (جبل الدموع)، وفي قمته وادٍ ضيّق يُحْمَلُ إليه الشيوخ والعجائز من القرى المجاورة عندما يبلغون سن الستين، هناك يتمّ التخلي عنهم ويتركون للموت. بالطبع، كانت هذه عادة وحشية جداً وسببت الكثير من الحزن للناس ولكنها كانت قانوناً قديماً ولا أحد يجسر على خرقه.
في إحدى القرى كان هناك فلاح يدعى  يوشي يعيش مع أمه التي تدعى فوميكو في كوخ صغير بائس، حيث يكدّ الاثنان كدّا محاولين توفير القوت من قطعة أرضهما الصغيرة. في صباح بارد، عندما كان الاثنان في الخارج يقطعان الخشب للموقد، قالت فوميكو (غدا هو أول أيام الربيع)، فرد يوشي (نعم يا أماه هناك الكثير من العمل لننجزه في الأسابيع المقبلة، ولأننا بقوة وصحة فإننا في هذه السنة مع قليل من الحظ سنحظى بحصاد وفير).
قالت أمه (لا يا يوشي، في أول يوم من أيام الربيع قبل ستين سنة مضت، جاءت بي أمي إلي هذا العالم وغدا كما تقتضي العادة، ينبغي عليك أن تحملني إلى قمة جبل الدموع، وتتركني هناك لأموت).
هنا أُثقل قلب يوشي بالهمّ، فقضى بقية النهار في صمت كئيب محاولاً أن يدرك سبب العادات القديمة. في المساء التالي، عندما جلس يوشي وفوميكو لتناول آخر عشاء لهما معا، فإنّ العجوز لم تأكل. (الليلة، يا ولدي، ستأكل نصيبي أيضاً، فأنا لن أحتاج إلى الطعام طويلا، وينبغي أن يكون لديك المزيد من القوة لتحملني إلى  قمة الجبل).
 هكذا ألحّت على ولدها ليأكل، ولكن كان الطعام مثل التراب في فمه فلم يستطع أن يتناول لقمة أخرى.
عندما أشرقت الشمس استعد الاثنان للقيام برحلتهما، نزعت العجوز شالها وغطت به كتفي ابنها (الليلة، يا ولدي، ستدّثر بشالي، فريح الليل رطبة وباردة، وأنت يجب أن تبقى دافئاً خلال رحلة عودتك إلى البيت)، وعند الباب نزعت قبقابها الخشبي ووضعته علي الأرض (الليلة يا ولدي لن أحتاج إلى استخدام القبقاب، فخذه واحفظه إلى اليوم الذي يصبح فيه قبقابك باليا)، هنا بدأ قلب يوشي بالتمزق ألماً.
ثم صعدت فوميكو فوق ظهر ابنها، وهكذا بدأت الرحلة الحزينة،حيث على الأقدام تسلقا الممر أعلى فأعلى  باتجاه قلب الجبل. بزغ القمر عاليا فوق أشجار الصنوبر، وكان التعيسان يشكلان ظلا كظل حيوان غريب برأسين، في منتصف الطريق الجبلي اختفى الممر، فكان على يوشي أن يجد طريقه الخاص وعندما مشى خلال الأشجار والشجيرات فإنّ فوميكو كسّرت نهايات الأغصان سأل يوشي (ما الذي تفعلينه يا أماه؟ هل تسمين أثراً كي يمكنك أن تجدي طريقك إلى البيت ثانية؟) أجابت (لا يا يوشي، أنا أسمُ هذا الأثر من أجلك).
عندما سمع هذه الكلمات،فإن قلب يوشي انشقّ إلى نصفين فقال (أماه، أنا لا أستطيع أن أتركك فوق جبل الدموع، ورغم أن القانون يُحرّم ذلك فإنني سآخذك إلى البيت، أنتِ عجوز ولكنك قوية وطيبة القلب وحتى لو كنت واهنة ضعيفة فإنني لن أتركك هنا كي تموتي).
وهكذا رجعا معا إلى البيت في تلك الليلة، ولكي يتأكد أن ليس من أحد عرف ما الذي قد فعله فإن يوشي اخفى أمه تحت سقيفة باب كوخهما.
قَدِمَ الربيع فقضى يوشي جميع نهاراته في حقول الأرز مشتغلا بكد ضعف شغله لأنه اشتغل وحده، وفي كل ليلة كان ينسل تحت سقيفة الباب حاملا الطعام والشاي لأمه، هناك في الظلمة يقضيان معا بعض لحظات أثيرة.
وفي أحد الأيام دعا مالك أرض المقاطعة (الديميو) جميع فلاحي القرية إلى قلعته. كان (الديميو) رجلاً جباراً يبتهج بعض الأوقات، في أمر فلاحيه بعمل فروض غاية في الصعوبة، في هذا اليوم أخبرهم (يجب أن يجلب كل واحد منكم حبلاً مجدولاً من الرماد، فإن لم يستطع عمل ذلك فسيُغرّم بوشلا(ہ) من الرز).
رجع الفلاحون المساكين إلى بيوتهم يمشون ببطء وقد عرفوا أنهم لن يقدروا علي جدل حبل كهذا، وحين دبَّ يوشي تحت سقيفة الباب في تلك الليلة فإنه أخبر أمه بكل ما حدث. رشفت فوميكو شايها، وفكرت لحظة ثم قالت (يمكن عمل ذلك، أولا يجب أن تجدل حبلاً من خيط قنبي  بكل ما تستطيع من قوة ضعه فوق صخرة ملساء وسخنها بمنتهى  العناية إلى أن يتحول الخيط القنّبي إلى رماد، بعدئذ يمكنك أن تحمل الصخرة مع حبل الرماد إلى القلعة)، عمل يوشي كما أخبرته أمه تماماً. وفي اليوم التالي حيث تجمع الفلاحون ثانية في القلعة كان هو الوحيد الذي عنده حبل مجدول من الرماد، سرّ الديميو كثيرا بيوشي لكنه أمر أتباعه بعمل فرض آخر ليري إن كان الشاب بارعاً حقاً كما بدا، فقال (يجب أن تجلبوا محارة بخيط وَلجَ كلّ حلزون من حلازينها،أما أولئك الذين لا يستطيعون إكمال الفرض فينبغي أن يُغرّموا بوشلاً آخر من الرز).
من جديد عاد الفلاحون مُجهدين إلى بيوتهم ومحبطين، كيف يمكن لأيّ كان أن يخيط محارة؟ ومن جديد أخبر يوشي أمه بكل ما قد حدث،فكرت فوميكو لحظة ثم قالت (يمكن عمل ذلك، أولا يجب أن تضع حبّة رز عند نهاية الخيط،أعط الحبة إلى نملة ما واجعلها تدبّ إلى النهاية العريضة من المحارة، وجّه النهاية الضيقة نحو الضياء، فالنملة ستدبّ نحوها مجتازة كل حلزون في طريقها إلى الخارج، وعندما تصل النملة إلى النهاية فإن محارتك ستكون مخاطة).
فعل يوشي كما أخبرته أمه، وفي اليوم التالي تجمع الفلاحون كان يوشي هو الوحيد الذي استطاع أن يخيط المحارة، كان الديميو متأثراً للغاية فدعا يوشي إلى جانبه قائلاً له (أخبرني، أيّها الفلاح الشاب، كيف استطعت أن تنجز مثل هذه الفروض الصعبة).
في حضرة مالك أرض جبار كهذا، فإن قلب يوشي بدأ يخفق بسرعة، وخاف على أمه، ولكنه كان رجلاً فاضلاً فأجاب بصدق، (اغفرْ لي لأنني قد خدعتك حين لم أطع قوانين شعبنا، في أول يوم من أيام الربيع كان يُفترض عليَّ أن أحمل أمي إلى  قمة جبل الدموع وأتركها هناك كما تقتضي العادة، ولكنها أم طيبة القلب حقا فشعرت بالأسى الشديد من أجلها لذا أرجعتها إلى البيت وأخفيتها تحت أرضية كوخنا. وعندما أمرتنا أن نعمل مسائل صعبة كهذه، سألت أمي طلبا للنصيحة، فكانت هي من اخبرني كيف اصنع الحبل واخيط المحارة).
تأثر الديميو تأثراً شديداً بقصة يوشي حيث تذكر الحزن الذي قد شعر به هو كذلك حين حمل والده ووالدته إلى قمة جبل الدموع، قال (أيها الفلاح يوشي إنها لحقيقة أنك لم تطع قوانين شعبنا وأعرافه، لقد كان واجبك يقتضي بأن تتخلى  عن أمك ففشلت في ذلك، لكنّ حكمة أمك علمتنا درساً قيّماً).
رفع الديميو صوته لكي يستطيع سماعه جميع الفلاحين (يوما ما سيهرم كل واحد منكم، بعضكم سيصبح ضعيفاً وغير قادر علي العمل في الحقول، سيصبح فماً إضافيا لتناول الطعام، ومصدرا للهم بالنسبة لأطفالكم، ولكن بعضكم سيغدو حكيماً في تلك السنين، وحكمة الشيوخ شيء نفيس لا يمكن قياسه ببوشلات من الرز، لذلك أعلن عن نهاية قانون التخلي في جبل الدموع).
عندما رجع يوشي إلى كوخه في تلك الليلة، قاد أمه من تحت السقيفة المظلمة إلى قنديل كوخهما، ثم احتفلا ــ الأم وابنها ــ بلقائهما العائلي البهيج.

الوردة

في شهر أيار، كانت توجد في حديقة هذا البيت الصغير في الضاحية، بالقرب من أشجار الورد، صفوف من الملفوف. كان المالك، وهو عجوز متقاعد، يعيش وحيداً مع طاهيته، يخلع سترته عند الغسق، ويلبس مئزراً من القماش المخطّط وينكش الأرض بالمعول، ويشذِّبها، ويسقيها ساعة، في انتظار وجبة العشاء. وكانت نساء الحيّ تستطيع رؤيته، وهن عائدات مساءً من الحدائق العامَّة مع أطفالهن، من خلال قضبان الشبكة المعدنية، فيما هو يوجِّه الفوارة على المساكب حاملاً خرطوم الماء بيده. وكان الرجل المتقاعد يقطف، من حينٍ لآخر، ملفوفةً، ويعطيها لطاهيته؛ أو يقص بالمقراض بعضاً من تلك الورود، ويضعها في زهرية في منتصف الطاولة، في قاعة الطعام. وعندما يجد وردة جميلة جمالاً خاصاً، كان الرجل المتقاعد يحملها إلى غرفته، ويضعها في كأس بعد ملئها بالماء، ويضعها على منضدةٍ قرب سريره. وكانت الوردة تبقى في الماء تنظر إلى رأس سرير العجوز، حتى تسقط أوراقها، وتتفتَّح كل بتلاتها مثل الأصابع، وتكشف عن قلبها الأشقر والوَبِر. لكن المتقاعد لم يكن يرمي الوردة إلا عندما يجد بتلاتها منثورةً على رخام المنضدة، ولا يوجد في الماء الذي فتر والمليء بالفقاعات سوى الساق المليئة بالأشواك. 
وفي صباح أحد أيام شهر أيار، انقضَّت سيتونية(١) مذهَّبة كبيرة، تتبعها ابنتها التي لا تزال شابة، بعد أن حلَّقتا سدىً في حدائق المنطقة، ولم تجدا أية زهرة وقد شاهدتا، من بعيد، مساكب المتقاعد، انقضتا على ورقة شجرة زعرور جرماني، عريضة وقاسية؛ وهنا قالت الأم لابنتها بعد أن استردَّت أنفاسها: "ها قد وصلنا إلى نهاية تجوالنا. فإذا ما انحنيتِ ونظرت إلى الأسفل، سترين زهرات عدة لا تنتظر سوى مجيئك. فنظراً لصغر سنِّك، أردت حتى الآن مرافقتك ونصحك في اختيار الورود وعلاقاتك معها... كنت أخشى أن تتعرض صحتُكِ الجسدية والنفسية للخطر بفعل حداثة الأحاسيس وعنفها إضافة إلى النهم الخاص بشبابك، لكنني وجدت أنكِ سيتونية عاقلة، مثل باقي سيتونيات عائلتنا، وقرَّرت أن الوقت قد حان، من الآن فصاعداً، لكي تعتمدي على نفسك وتحلِّقي بأجنحتك نحو الورود التي تفضلين؛ فمن الأوفق إذاً أن نفترق نهاراً كاملاً؛ وسنعود ونلتقي على ورقة شجرة الزعرور هذه. لكنني سأعطيكِ قبل أن نفترق، بعض التوصيات. تذكّري أن السيتونية خلقت لتلتهم الورود. أو، على العكس، خلق الله الورود كي تتغذّى السيتونيات عليها. وبخلاف ذلك، فلسنا نجد لماذا تصلح هذه الورود. وإذا لم تجدي ورداً، أمسكي وامتنعي عن الطعام، فمن الأفضل تحمّل الجوع على مسّ غذاءٍ غير جدير بعِرقنا. ولا تصدِّقي مغالطات دود الأرض والرعاع الآخرين، الذين يدَّعون أن جميع الورود جيدة. هذا ما يبدو، في أول الأمر لكن بعد ذلك تنكشف بعض الأمور. وبعد أن ينقضي زمن الشباب، تكشف السيتونية التي انحطت، النقاب عن جميع نقائص انحطاطها المخجلة؛ وعليها، بعد أن يتم إبعادها عن قومها أن تقاوم صحبة الخنافس والزنابير والطفيليات، وقائمة طويلة أخرى من الهَنات(٢). لأن الوردة، يا صغيرتي، هي غذاء إلهي، قبل أن تكون غذاءً مادياً. ومن جمالها، تنهل السيتونية جمالها هي. إنها أشياء غامضة، ولن أعرف أن أقول لكِ أكثر من ذلك. وأعرف ببساطة، أن بعض القوانين، التي تدعى، بدقةٍ، إلهية، لم تُنْتَهك أبداً دون عقاب. لكنكِ لست بحاجة لمثل هذه التحذيرات، فأنتِ سيتونية سويَّة ونزيهة، وتحكمين بالفطرة على بعض الأشياء. فإلى اللقاء، يا صغيرتي، إلى اللقاء هذا المساء." وبعد أن عبَّرت عن أفكارها على هذا النحو، طارت الأم الشجاعة، لأن وردة قرمزية ضخمة، تفتَّحت أوراقها قبل هنيهة، كانت الآن تستهويها، وتخشى أن تسبقها إليها سيتونية أخرى، أو أن تستميل صراحة، ابنتها. 
وبقيت السيتونية الفتيَّة بضع دقائق أخرى على ورقة شجرة الزعرور تتملَّى حديث أمها. ثم طارت بدورها. 
إن أحداً آخر غير السيتونية، لا يمكنه أن يتصوَّر ما هي الوردة لسيتونية. فتخيَّلوا الزرقة في شهر أيار، تجتازها موجات شمسية بطيئة، في حديقة مزهرة. وها هو سطح منتفخ وأبيض يظهر أمام عيني السيتونية المحلِّقة والتي يداعب ظلّها بتضاريسه المُهيبة، ويتوِّج الضوء حوافه المتألِّقة؛ سطح واسع وناعم، مماثلٍ لسطح ثدي مثقل بالحليب. إنها الورقة الخارجية لوردة بيضاء، لا تزال منغلقة، لكنها عريضة عند الأطراف، وتكشف عن أوراق أخرى متراصَّة وملتوية بعضها على بعض. وقد أثار هذا البياض الشاسع والبكر، الذي اكتسح فجأةً سماء عينيّ السيتونية، هيجاناً شرهاً، فاتناً ولاهثاً. وكان أول اندفاع شعرت به، هي أن تنقضَّ برأسها أولاً، على هذا اللحم الرائع غير المحمي، وتنهشه، وتمزِّقه لتدمغه بندبة استحواذها المسبق عليه. لكن حدسها أوحى لها بطريقة أكثر نعومة لولوج الوردة؛ وها هي تتشبَّث بحوافي ورقةٍ مفرطة وتتسلل إلى داخل الوردة. كان في الإمكان رؤية جسم السيتونية الأخضر- الذهبي برهة، مماثلاً ليد تندس بين أغطية سرائر من الكتَّان الأبيض، يتخبَّط بيأس، محاولاً شق طريقٍ لنفسه؛ ثم اختفى تقريباً، واستعادت الوردة، المنتصبة على ساقها، مظهرها المألوف، شبيهةً بفتاة شابة، تحتفظ تحت مظهر البراءة العذرية، بالسر الحارق لأول عناقٍ غراميّ لها. لكن، فلنتبع السيتونية في قرارة الوردة. كل شيء حولها ظلام؛ لكنه ظلام نديّ، ذكيّ الرائحة وناعم؛ ظلام يحيا ويخفق في ثناياها الخفيَّة، مثل ثنايا فمٍ مُشْتَهى؛ والسيتونية ذاهلة بعطر الوردة، مبهورة ببياضها الذي تسبره بين البتلات التي تنطبق ثانيةً، وقد اهتاجت بليونة هذا اللحم. وهي ليست سوى رغبة، كما أن الوردة ليست سوى غرام؛ وبحبٍّ جنوني فطري، بدأت تلتهم الأوراق. ليس الجوع، كما قد يُظن خطأ، ما يدفعها إلى تمزيق البتلات وخرقها، لكنها الرغبة المجنونة في الوصول إلى قلب الوردة بأسرع وقتٍ ممكن. إنها تعصر بين براثنها، وتمزِّق، وتقطِّع، وتخزق، وتجزِّئ. وفي الخارج، لا يشك أحد بأمر هذا الولوج المجنون؛ وتحتفظ الوردة المنتصبة والبِكْر تحت ضوء الشمس، بدون خجلٍ، بسرِّها. لقد كسرت السيتونية، في أثناء ذلك الوقت، بهيجانٍ متزايد، غلاف الوردة الأول، والثاني والثالث. وبمقدار ما كانت تلج، كانت الأوراق تصبح أكثر نعومة، وأزكى رائحة، وأكثر بياضاً. وشعرت السيتونية بأنه سيغشى عليها من المباهج، وأن قواها ستخور تقريباً، وتضرب ضربةً أخيرة ببراثنها، وتفتح في متراس البتلات القاتم، فتحة نهائية، وتُدْخِل رأسها أخيراً في الفرو الأبيض والمُسْكِر لغبار الطلع. وستبقى هنا، دائخة، ضائعة، منهكة وكأنها ميتة، في هذه الظلمات الندية والمعطّرة؛ لن تتحرَّك، وستبقى جامدة، ساعات، وأياماً كاملة. أما، في الخارج، فلم يُفْشِ أدنى ارتعاش للأوراق، تحت براءة أشعة شهر أيار، سرَّ الوردة المثير. 
هذا هو قدَر السيتونية. لقد كانت هذه الشابَّة التي أعطتها أمها نصائحها التي تظنُّها غير ضرورية، تشعر في الواقع بأنها مختلفة، اختلافاً لا يُحدّ نهائياً، عن رفيقاتها من جنسها. شيء لا يصدَّق، لكنه صحيح: كانت الورود لا تعني لها شيئاً. وكانت سيتونيتنا تشعر، شعوراً عارماً، بأنها مدفوعة لتغيير هذه المشاعر الوراثية والحارَّة، التي تشعر بها السيتونيات نحو أجمل الورود المعطَّرة، منذ الأزمنة السحيقة، إلى اختيارات باردة وخشنة. كانت السيتونية قد اكتشفت باكراً جداً ميولها، ورأت، في مبادرةٍ أولية، أن تكاشف أمها بالأمر. لكنها فيما بعد، ومثلما يحدث دائماً في هذه الحالة، شعرت بالذعر من صعوبة اعترافٍ كهذا، وفي الوقت ذاته ومع شكِّها بالعلاج الأمومي، عدلت عن ذلك. وحاولت جاهدة ولثقتها بقدراتها الشخصية، إصلاح نفسها بنفسها. وهكذا حاولت متنقِّلة من وردةٍ إلى وردة، تحت عيني أمها العطوف، الحصول مع الرضى على هذه الرغبات التي كانت فطرتها ترفض إعطاءها لها. جهد ضائع. فما أن كانت تدخل بين الأوراق حتى تتوقَّف سريعاً، وكأنها مشلولة، وليس فقط غير مبالية، بل صراحةً، عرضة لنفورٍ لا يقاوم. وكان هذا اللَّحم الناعم يبدو لها مغموساً بشهوةٍ لزجة وعسليَّة، والروائح كعفونات مختلطة، والبياض كظلٍّ نجسٍ وفاحش. وكانت تحلم، وهي لا تزال جامدة ومشمئزَّة، بالملفوف الأخضر الطازج والشهي. فالملفوف لا يتزيَّن بألوان البطاقات البريدية المزيَّفة، ولا يتعطَّر بعطر البتشولي(٣) المقزِّز والمريب، ولا يعرض بمحاباة هذه العذوبة المغثية. وقلب الملفوف مثير للشهية، يلتوي وهو يتعرَّج بين التِلَع(٤)، ورائحته رائحة العشب والندى الصحيِّ، ولونه أخضر زاهٍ. كانت السيتونية تلعن في قلبها، الطبيعة التي جعلتها مختلفة عن ممثِّلات جنسها الأخريات؛ أو بالأحرى ما جعل جميع السيتونيات الأخريات مختلفات عنها. أخيراً، وعندما وجدت أن إرادتها لا تساعدها على النجاح في شيء، وأنها حاولت جاهدة إرغام نفسها كثيراً ولم تستطع حب الورود، قررت ألا تقاوم ميولها أبداً، بل أن تستسلم لها صراحةً. كانت تفكر أحياناً، محاولة تبرئة نفسها بطريقة مغالطة، وإنامة ضميرها تقول: "وفضلاً عن ذلك، ما هو الملفوف؟ إنه وردة خضراء... إذاً، لماذا لا أحبُّ الملفوف...؟" 
بعد كل ما قيل، من السَّهل تصوُّر ملاحظات السيتونية الشابة، حول ورقة شجرة الزعرور، حيث تركتها الأم لتطير نحو وردة شهواتها. ولكي نسلّط الضوء على مأساة هذه النّفْس، سنروي بعضاً منها: "شيء حزين أن نُخْلق مختلفين عن الجمهور. لا نعرف لماذا، ولا نعرف كيف يصبح الفرق، فجأة، دونيةً، خطيئةً، وجريمة. ومع ذلك، لا يوجد بين الجمهور وبيني سوى علاقة عدد. مصادفة كون السيتونيات، في غالبيتهن العظمى يحببن الورود؛ من الجيد إذاً، أن نحب الورود. نهج جميل في التفكير. أنا، مثلاً، أحب الملفوف ولا شيء آخر سوى الملفوف. إنني مكونَّة على هذا النحو، ولا أستطيع أن أتغيّر." 
ومن غير المجدي، من جهةٍ أخرى، نقل أفكار السيتونية التعيسة كاملةً. يكفي القول، كي نبتّ في أمر تفكيرها الطويل إنها طارت نحو شجرة الزعرور، وبعد عدة جولات استكشافية، ذهبت لتحط على ورقة أكبر ملفوفة موجودة، لونها أخضر-مزرق، منتفخة، ومليئة بالضلوع والتجاعيد. وكي لا تلفت الأنظار إليها، تظاهرت بأنها حطّت على الخضرة لترتاح. وبالتالي، اتخذت وضعاً متراخياً؛ فجلست على جنبها وأسندت رأسها على قائمتها. وكان نعم الرأي، لأن سيتونيتين طائشتين مفعمتين بالحيوية، ظهرتا بعد برهة، وأخذتا ترفرفان حولها. ثم صاحتا ثملتين: "ألن تأتي؟ إننا ذاهبتان إلى الورود." ولحسن الحظ أنهما لم تهتَّما في عجلتهما بمراقبة رد السيتونية على دعوتهما. ................وبعد أن ألقت السيتونية نظرة خاطفة حولها، ولحظت عدم ظهور أي سيتونية في الأفق، تظاهرت بأنها تعثَّرت بضلعٍ من أضلع ورقة الملفوف، وتركت نفسها تتدحرج باتجاه قلب الخضرة. وخلال ثانية واحدة، وبعد أن أحدثت فتحةً بضرباتٍ تشنُّجية في الورقة السمينة والغشائية، اختفت داخل قلبها المجعَّد. 
وماذا نقول أكثر من ذلك؟ هل علينا أن نتوقَّف عند وصف الهيجان الذي فتحت به السيتونية طريقاً لها داخل الملفوفة، وقد أصبحت حرة أخيراً في إطلاق غرائزها المكبوتة، وقد انتشت بالنتانة النباتية التي كانت تفوح من قلب النبتة الشحيم، وكيف وصلت إلى قلب الأوراق البارد واللَّزج؟ وكيف بقيت طوال النهار في الداخل، خائرة القوى، وأمضت فيه نهار سكرٍ وعربدةٍ حقيقيين؟ ....... وعند المساء، انسحبت السيتونية، على مضض، بالممر الذي حفرته في قلب الملفوفة، كما هو مقرَّر، وطارت نحو شجرة الزعرور، إلى المكان الذي حدَّدته أمها لموعدهما. فوجدتها منحنية، تنظر حولها، قلقة لأنها لم ترها تظهر. سألت الأم الشجاعة ابنتها سريعاً كيف سارت الأمور خلال النهار؛ فردت السيتونية صراحة، بأن كل شيء تمَّ على أحسن ما يرام: فالورود متوفِّرة بكثرة. وتفحَّصت الأم وجه ابنتها؛ لكنها اطمأنّت تماماً لملاحظتها بأنه صافٍ وبريء مثلما هو دائماً. قالت لها عندئذٍ: "تصوَّري بأن فضيحة قد تفجّرت... لقد شوهدت سيتونية تدخل تحت أوراق، أكاد لا أجرؤ على أن أكرِّر الكلمة، ملفوفة." وزايدت الابنة قائلة: "يا للهول"؛ لكن سرعة دقات قلبها بدأت تشتد، وأضافت: "ومن كانت؟" أجابت الأم: "لم يستطيعوا تبيُّنها. شاهدوها تدخل تحت الأوراق، وهي تخبِّئ رأسها فيها... لكن، تبعاً لأغمدتها يُظَنُّ أنها فتيّة. شقيّة هي الأم التي جعلها حظها العاثر تلد بنتاً كتلك. وأعترف لكِ بأنني لو كنت أعلم أن لابنتي ميولاً مماثلة، لمتُّ من الألم." وردّت البنت قائلة: "إنكِ على حق. إنها أشياء يرفض العقل حتى تصوّرها." فقالت الأم: "هيا بنا." وطارت السيتونيتان في فتور الغسق، نحو حدائق أخرى، وهما تثرثران.

 
back to top